الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال أبو السعود في الآيات السابقة: {يا أيها المزمل} أي المُتزمِّلُ، مِنْ تزمّل بثيابِه إذا تلفّف بها فأُدْغم التاءُ في الزّاي وقدْ قرئ على الأصلِ وقرئ {المُزمِّلُ} من زمّلة مبنيا للمفعولِ ومبنيا للفاعلِ. وقيل: خُوطِب به النبيُّ عليهِ الصّلاةُ والسّلامُ تهجينا لما كان عليهِ من الحالةِ، حيثُ كان عليهِ الصّلاةُ والسّلامُ متلففا بقطيفةٍ مُستعدا للنومِ كما يفعلهُ منْ لا يهمُّهُ أمرٌ ولا يعنيهِ شأنٌ فأُمر بأنْ يترك التزمل إلى التشمر للعبادةِ والهجودِ إلى التهجدِ، وقيل: دخل عليهِ الصّلاةُ والسّلامُ على خديجة وقد جئِث فرقا أول ما أتاهُ جبريلُ عليهما السّلامُ وبوادُره ترعدُ فقال «زمِّلوني زمِّلونِي» فحسب أنّه عرض له فبينا هو على ذلك إذْ ناداهُ جبريلُ فقال: {يا أيُّها المزمِّلُ} فيكونُ تخصيصُ وصفِ التزمُّلِ بالخطابِ للملاطفةِ والتأنيس، كما في قوله عليه الصّلاةُ والسّلامُ لعلي رضي الله عنه حين غاضب فاطمة رضي الله عنها فأتاهُ وهو نائمٌ وقد لصق بجنبهِ الترابُ «قُمْ يا أبا تُرابٍ» ملاطفة له وإشعارا بأنّه غيرُ عاتبٍ عليه، وقيل المعْنى: يا أيُّها الذي زُمِّل أمْرا عظيما هُو أمرُ النبوةِ أي حمله والزملُ الحملُ وازدملهُ أي احتملهُ، فالتعرضُ للوصفِ حينئذٍ للإشعارِ بعلِّيتهِ للقيامِ، أو للأمرِ به فإنّ تحميلهُ عليه الصّلاةُ والسّلامُ لأعباءِ النبوةِ مما يوجبُ الاجتهاد في العبادةِ {قُمِ الليل} أيْ قُمْ إلى الصلاِة. وانتصابُ الليلِ على الظرفيةِ وقيل: القيامُ مستعارٌ للصلاةِ ومعْنى قُمْ صلِّ. وقرئ بضمِّ الميمِ وبفتحِها. {إِلاّ قلِيلا} استثناءٌ من {الليلِ}. وقوله تعالى: {نّصْفهُ} بدلٌ من {الليلِ} الباقي بعد الثُّنْيا بدل الكُلِّ أيْ قُمْ نصفهُ، والتعبيرُ عن النصفِ المُخرجِ بالقليل لإظهارِ كمالِ الاعتدادِ بشأنِ الجزءِ المُقارِنِ للقيامِ والإيذانِ بفضلِه وكونِ القيامِ فيهِ بمنزلةِ القيامِ في أكثرِه في كثرةِ الثوابِ، واعتبارُ قلتهِ بالنسبةِ إلى الكلِّ مع عرائِه عن الفائدةِ خلافُ الظّاهرِ {أوِ انقص مِنْهُ} أي أنقُص القيام من النصفِ المقارنِ له في الصُّورة الأولى {قلِيلا} أي نقصا قليلا أو مقدارا قليلا بحيثُ لا ينحطُّ إلى نصف النصفِ.{أوْ زِدْ عليْهِ} أي زدِ القيام على النصف المقارِنِ له فالمعْنى تخييرُه عليهِ الصّلاةُ والسّلامُ بين أنْ يقوم نصفهُ أو أقلّ منه أو أكثر وقيل: قوله تعالى: {نصفهُ} بدلٌ من {قليلا} والتخييرُ بحالهِ، وليس بسديدٍ، أمّا أولا فلأنّ الحقيق بالاعتناءِ الذي ينبئُ عنْهُ الإبدالُ هو الجُزءُ الباقي بعد الثُّنيا المقارِنُ للقيامِ لا الجزءُ المُخرجُ العارِي عنه، وأمّا ثانيا فلأنّ نقص القيامِ وزيادتهُ إنما يُعتبرانِ بالقياسِ إلى معياره الذي هو النصفُ المقارِنُ له فلو جُعل {نصفهُ} بدلا من {قليلا} لزم اعتبارُ نقصِ القيامِ وزيادتِه بالقياسِ إلى ما هُو عارٍ عنه بالكُليّةِ، والاعتذارُ بتساوي النصفينِ مع كونِه تمحلا ظاهرا اعترافٌ بأنّ الحقّ هو الأولُ. وقيل: {نصفهُ} بدل من {الليل} و{إلاّ قليلا} استثناءٌ من النصف، والضميرُ في {منه} و{عليه} للنصف والمعنى التخييرُ بين أمرينِ بين أن يقوم أقلّ من نصف الليلِ على البتاتِ وبين أنْ يختار أحد الأمرينِ وهُما النقصانُ من النصفِ والزيادةُ عليهِ. وقيل: الضميرانِ للأقلِّ من النصفِ كأنّه قيل: قُم أقلّ من نصفهِ أو قُم أنقص من ذلك الأقلِّ أو أزيد منهُ قليلا. وقيل: والذي يليقُ بجزالة التنزيلِ هو الأولُ والله أعلمُ بما في كتابه الجليلِ. {ورتّلِ القرءان} في أثناءِ ما ذُكِر من القيامِ أي اقرأهُ على تُؤدةٍ وتبيين حروفٍ {ترْتِيلا} بليغا بحيثُ يتمكنُ السامعُ من عدِّها من قولهم ثغرٌ رتْلٌ ورتِلٌ إذا كان مُفلّجا.{إِنّا سنُلْقِى عليْك} أن سنُوحي إليك وإيثارُ الإلقاءِ عليه لقوله تعالى: {قولا ثقِيلا}. وهو القرآن العظيمُ المنطوِي على تكاليف شاقةٍ ثقيلةٍ على المُكلفين لاسيما على الرسولِ عليه الصّلاةُ والسّلامُ فإنّه عليهِ الصّلاةُ والسّلامِ مأمورٌ بتحملها وتحميلها للأمة، والجملة اعتراضٌ بين الأمرِ وتعليلهِ لتسهيل ما كُلِّفهُ عليه الصّلاةُ والسّلامُ من القيامِ. وقيل: معْنى كونِه ثقيلا أنه رصينٌ لرزانة لفظهِ ومتانة معناهُ أو ثقيلٌ على المتأمل فيهِ لافتقارِه إلى مزيد تصفيةٍ للسرِّ وتجريدٍ للنظرِ أو ثقيلٌ في الميزان أو على الكفار والفجارِ أو ثقيلٌ تلقيه.عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما كان إذا نزل عليه الوحيُ ثقُل عليه وتربّد له جلدُه، وعن عائشة رضي الله تعالى عنها رأيتُه ينزلُ عليه الوحيُ في اليومِ الشديدِ البردِ فيفصمُ عنه وإن جبينهُ ليرفضُّ عرقا. {إِنّ ناشِئة الليل} أي إنّ النفس التي تنشأ من مضجعِها إلى العبادةِ أي تنهضُ، من نشأ من مكانه إذا نهض أو إنّ قيام الليلِ على أنّ الناشئة مصدرٌ من نشأ كالعافية أو إنّ العبادة التي تنشأُ بالليلِ أي تحدثُ أوان ساعاتِ الليلِ فإنّها تحدثُ واحدة بعد واحدةٍ، أو ساعاتها الأولُ من نشأ إذا ابتدأ {هِى أشدُّ وطْأ} أي هي خاصّةٌ أشدُّ ثبات قدمٍ أو كلفة فلابد من الاعتناءِ بالقيامِ. وقرئ {وطاء} أي أشدُّ مواطأة يواطئُ قبلها لسانها إن أريد بها النفسُ أو يواطئُ فيها قلبُ القائمِ لسانه إنْ أُريد بها القيامُ أو العبادةُ أو الساعاتُ أو أشدُّ موافقة لما يرادُ من الخشوعِ والإخلاصِ {وأقْومُ قِيلا} وأسدُّ مقالا وأثبتُ قراءة لحضورِ القلبِ وهدوءِ الأصواتِ.{إِنّ لك في النهار سبْحا طوِيلا} أي تقلبا وتصرفا في مهمّاتِك واشتغالا بشواغلك فلا تستطيعُ أن تتفرغ للعبادةِ فعليك بها في الليلِ وهذا بيانٌ للداعي الخارجي إلى قيامِ الليلِ بعد بيانِ ما في نفسِه من الدّاعي. وقرئ {سبْخا} أي تقرق قلبٍ بالشواغلِ مستعارٌ من سبخِ الصوفِ وهو نفشُه ونشرُ أجزائِه. {واذكر اسم ربّك} ودُمْ على ذِكرِه تعالى ليلا ونهارا على أيِّ وجهٍ كان من تسبيحٍ وتهليلٍ وتحميدٍ وصلاة وقراءة قرآنِ ودراسةِ علمٍ. {وتبتّلْ إِليْهِ} أيْ وانقطعْ إليهِ بمجامعِ الهمةِ واستغراقِ العزيمةِ في مراقبتِه، وحيثُ لم يكن ذلك إلا بتجريدِ نفسهِ عليه الصّلاةُ والسّلامُ عن العوائقِ الصّادةِ عن مراقبةِ الله تعالى وقطعِ العلائقِ عمّا سواهُ قيل: {تبْتِيلا} مكان تبتلا مع ما فيهِ من رعايةِ الفواصلِ.{رّبُّ المشرق والمغرب} مرفوعٌ على المدح وقيل: على الابتداءه، خبرُهُ: {لا إله إِلاّ هُو} وقرئ بالجرِّ على أنّه بدلُ من {ربِّك}، وقيل: على إضمار حرفِ القسمِ جوابُه لا إله إلاّ هُو. والفاءُ في قوله تعالى: {فاتخذه وكِيلا} لترتيب الأمرِ وموجبهِ على اختصاصِ الألوهيةِ والربوبيةِ به تعالى: {واصبر على ما يقولون} مما لا خير فيه من الخُرافاتِ {واهجرهم هجْرا جمِيلا} بأنْ تجانبهم وتداريهم ولا تكافئهم وتكل أمورهُم إلى ربِّهم كما يعربُ عنه قوله تعالى: {وذرْنِى والمكذبين} أي دعني وإيّاهم وكلْ أمرهُم إليّ فإنِّي أكفيكهُمْ {أُوْلِى النعمة} أربابِ التنعمِ وهم صناديدُ قريشٍ {ومهّلْهُمْ قلِيلا} زمانا قليلا {إِنّ لديْنا أنكالا} جمعُ نِكْلٍ وهو القيدُ الثقيلُ. والجملة تعليلٌ للأمرِ أيْ إنّ لدينا أمورا مضادة لتنعمهِم {وجحِيما وطعاما ذا غُصّةٍ} ينشبُ في الحُلوقِ ولا يكادُ يُساغُ كالضّريعِ والزقُّوم {وعذابا ألِيما} ونوعا آخر من العذابِ مُؤلما لا يُقادرُ ولا يُدْرك كنهه، كلُّ ذلك معدٌّ لهم ومرصدٌ.وقوله تعالى: {يوْم ترْجُفُ الأرض والجبال} أي تضطربُ وتتزلزلُ، ظرفٌ للاستقرار الذي تعلق به {لدينا}، وقيل: متعلقٌ بمضمر هو صفةٌ لـ: {عذابا} أي عذابا واقعا يوم ترجفُ {وكانتِ الجبال} مع صلابتها وارتفاعها {كثِيبا} رملا مجتمعا من كثب الشيء إذا جمعهُ كأنّه فعِيلٌ بمعنى مفعولٍ. {مّهِيلا} منثورا من هِيل هيلا إذا نُثر وأُسيل. اهـ..قال الصابوني: {يا أيها المزمل (1) قم الليل إلا قليلا (2)}سورة المزمل:[1] تلاوة القرآن:.التحليل اللفظي: {المزمل}: قال اللغويون: {المزمل} الملتف في ثيابه، وأصله (المتزمل) فأدغمت التاء في الزاي فثقلت، وكل من التف بثوبه فقد تزمل قال امرؤ القيس:وقال ذو الرمة: {ورتل القرآن}: قال الزجاج: {رتل القرآن ترتيلا}: بينه تبينا، والتبيين لا يتم إلا بإظهار جميع الحروف، وتوفيتها حقها من الإشباع.وقال المبرد: أصله من قولهم: ثغر رتل إذا كان بين الثنايا افتراق ليس بالكثير، وقال الليث: الترتيل تنسيق الشيء، وثغر رتل: حسن التنضيد.ومعنى الآية: اقرأ القرآن على تؤدة، وتمهل، وتبيين حروف، مع تدبر المعاني.{إن ناشئة الليل}: أوقات الليل وساعاته، سميت بذلك لأنها تنشأ شيئا بعد شيء، يقال: نشأ السحاب إذا ابتدأ، فناشئة (فاعلة) من نشأت تنشأ فهي ناشئة، والمراد ساعات الليل الناشئة، فاكتفى بالوصف ع الاسم.وقال الزمخشري: {ناشئة الليل}: النفس الناشئة بالليل، التي تنشأ من مضجعها إلى العبادة أي تنهض، وأنشد ابن السكيت: {أشد وطأ}: أي أثقل على المصلي من ساعات النهار، من قول العرب: اشتدت علينا وطأة السلطان، إذا ثقل عليهم ما حملهم من المؤن وفي الحديث: «اللهم اشدد وطأتك على مضر» فالليل وقت النوم والراحة، فمن شغله بالعبادة فقد تحمل المشقة العظيمة.والمعنى: إن قيام الليل للعبادة، وقضاء ساعاته في الطاعة، أشد ثقلا على النفس، وأرجى عند الله وأقوم.{وأقوم قيلا}: أي أشد استقامة واستمرارا، وأكثر استقامة على نهج الحق والصواب، لأن الليل تهدأ فيه الأصوات، وتنقطع فيه الحركات فتخلص فيه القراءة، ويفرغ القلب لفهم التلاوة، فلا يكون دون تسمعه وتفهمه حائل.{سبحا}: قال المبرد: سبحا أي تقلبا وتصرفا في المهمات كما يتردد السابح في الماء قال الشاعر: قال في (اللسان): السبح: الفراغ وفي التنزيل {سبحا طويلا} إنما يعني به فراغا طويلا وتصرفا، وقيل: معناه: لك في النهار ما تقضي حوائجك.وقال الزجاج: إن فاتك من الليل شيء من النوم والراحة، فلك في النهار فراغ فاصرفه إليه.وقال ابن عباس: لك في النهار فراغ لنومك وراحتك، فاجعل ناشئة الليل لعبادتك.{وتبتل إليه تبتيلا}: التبتل الانقطاع إلى العبادة، ومنه قيل لمريم عليها السلام (البتول) لأنها انقطعت إلى الله تعالى في العبادة، وأصل البتل: القطع، ويقال للراهب (متبتل) لانقطاعه عن الناس، وانفراده بالعبادة قال امرؤ القيس: {هجرا جميلا}: أي لا تتعرض لهم، وجانبهم ولا تقابلهم بمثل إساءتهم. .المعنى الإجمالي: يقول الله تعالى ما معناه مخاطبا نبيه الكريم: يا أيها المتزمل المتلفف في ثيابه، قم للأمر العظيم الذي ينتظرك، قم للجهد والنصب، والكد والتعب، فقد مضى وقت الراحة، قم فشمر عن ساعد الجد، وأحي الليل كله أو نصفه أو أقل قليلا، بالصلاة والتضرع، والعبادة والتخشع، لتستعد لنفحاتنا القدسية، لأننا سنوحي إليك بهذا القرآن العظيم، الثقيل في الوزن العظيم في الأجر، الرصين في الجزالة والتعبير، فاقرأه بتدبر وتبصر في قيامك بالليل، ورتله على مهل بخشوع وإنابة فإن قيام الليل بالصلاة، وقضاء ساعاته في الطاعة، أشد ثقلا على النفس، وأرجى للقبول عند الله.ولك يا محمد في النهار تقلبا طويلا من مهامك، فاجعل ناشئة الليل لعبادتك، واذكر اسم ربك لتستمد قوتك منه، وانقطع لعبادته ولا تتوجه لأحد سواه، فهو الناصر والمعين، وهو رب العزة، ذو الجلال والإكرام الذي لا يخيب من التجأ إليه، فاجعله وكيلا لك في جميع الأمور.واصبر يا محمد على تكذيب قومك لك، وعن صدودهم وإعراضهم عن دعوتك، ولا تتعرض لهم ولا تقابلهم بمثل إساءتهم، واهجرهم بالحسنى حتى يجعل الله لك من أمرك فرجا ومخرجا، بالنصر عليهم ونصر الله قريب.
|